مصطفى لغتيري
تكاد تكون علاقة المرأة بالشعر علاقة جدلية، فحضور احدهما استدعاء للآخر، سواء كان ذلك بشكل مباشرة او بشكل غير مباشر، وهي بالتاكيد علاقة ضاربة في القدم، وكأن الشعر ولد في أحضان المراة، أو انها تلك المولدة التي سهرت على معانقته نور الوجود حين تجود به قرائح الرجال، وحتى النساء أحيانا، ويمكن رصد هذه العلاقة، في تشابكاتها الوجودية والدلالية عبر التاريخ، وكأن الشعر لم يكن لينوجد إلا بسبب وجود آخر أسبق وأعمق وهو وجود المرأة بكايانها الفعلي او بحضورها الرمزي، كان وما يزال معادلا موضوعيا للعطاء والخصب والعاطفة المشبوبة..
ولعل هذا الوجود الأخير دال بذاته ولا يحتاج دليلا على وجوده وتألقه في تاريخ البشرية جمعاء، فقد كانت المرأة وما تزال ملهمة للشعراء، تستدر قريحتهم، فتنهمر القصائد مدرارا، وإذا كان هذا الوجود الملهم صعبا على الحصر، فيكفي ان نتوقف عند بعض الشعراء العرب الذين كانت المراة ملهمة لهم بشكل صريح، فخلدوا بعض النساء في قصائدهم، التي تغنى بها القراء وما يزالون، إذ ما إن يمس الشاعر قبس من حب حتى تفيض نفسه شعرا، ومن هؤلاء الملك الضليل امرؤ القيس، الذي تنسب إليه القصيدة المشهورة، التي تغنى بها اكثر من مطرب عربي، حتى حفظها الناس ولهجت بها الألسن، وكانت أشهر هؤلاء المطربين الفنانة العراقية هيام يونس، وهي القصيدة التي يقول الشاعر في مطلعها:
تعلق قلبي طفلة عربية ….تنعم في الديباج والحلي والحلل
ثم يسترسل في وصفها قائلا:
حجازية العينين مكية الحشى ……عراقية الأطراف رومية الكفل
تهامية الأبدان عبسية اللمى …..خزاعية الأسنان درية القبل
ومن هؤلاء الشعراء الذين اقترن اسمهم بالمرأة عمر بن ابي ربيعة، الذي كادت صفة شاعر الغزل تغلب عليه، فلا يعرف إلا بها، ومن ذلك قوله في قصيدته المشهورة التي مطلعها:
لَيتَ هِنداً أَنجَزَتنا ما تَعِد………وَشَفَت أَنفُسَنا مِمّا تَجِد
وَاِستَبَدَّت مَرَّةً واحِدَةً……… إِنَّما العاجِزُ مَن لا يَستَبِد
ويقول فيها:
غادَةٌ تَفتَرُّ عَن أَشنَبِها…….حينَ تَجلوهُ أَقاحٍ أَو بَرَد
وَلَها عَينانِ في طَرفَيهِما……..حَوَرٌ مِنها وَفي الجيدِ غَيَد
طَفلَةٌ بارِدَةُ القَيظِ إِذا……..مَعمَعانُ الصَيفِ أَضحى يَتَّقِد
ومنهم كذلك قيس ن الملوح أو مجنون ليلى الذي غلب عليه هذا اللقب حتى أخفى اسمه الحقيقي، ويحكى أنه صادف في طريقه رجالا يصلون فمر من امامهم فاوقفوا صلاتهم، ونهروه قائلين، ألم ترانا ونحن نصلي، فرد عليهم والله لو احببتم الله كما احب ليلى لما رأيتموني، وهو الذي يقول في قصيدة له:
يقولونَ ليلى بالعِراقِ مَريضَةٌ……فيا ليتني كنتُ الطَّبيبَ المُداوِيا
تَمُرُّ الليالي والشّهورُ، ولا أرى………غَرامي لها يَزدادُ إلاّ تَمادِيا
وإذا ما عرجنا على العصر الحديث فيمكننا ان نكتفي من القلادة بما احاط بالعنق، فنستحضر شاعر المرأة بامتياز الشاعر نزار قباني الذي ابدع واجاد واوفى في الكتابة عن المرأة ككائن حقيقي حبيبة وزوحة وأما، كما كتب عنها باعتبارها رمزا للحياة والوطن والمدينة وهلم رموز، ومن هذه القصائد رائعته، التي كتبها بسبب الحرب الأهلية في لبنان، والتي ذهبت ضحيتها مدينة بيروت خرابا وقتلا وهمجية، فكان تشبيهه لها بالمرأة أرق وأبلغ وأعمق ما يمكن أن يبلغه شاعر:
يا ست الدنيا يا بيروت
من باع أساورك المشغولة بالياقوت
من صادر خاتمك الءحرر وقص أظافرك الذهبية
من ذبح الفرح النائم في عينيك الخضراوبن
من شطب وجهك بالسكين
وألقى ماء النار على شفتيك الرائعتين
ولم تكتف المرأة بدورها كملهمة للشعراء أو موضوعا للشعر فحسب، بل كانت وما تزال مبدعة للقصيد تتفنن في إنتاجه حسب ظروفها الخاصة، التي كانت في عمومها غير مشجعة، عكس ظروف الرجل، مما أتاح له التعبير الحر عن مشاعره، بينما كانت التقاليد وتمثل المجتمع الذكوري للمرأة مانعا لها لتخوض تجربة الخلق او البوح الشعري، ومع ذلك لم نعدم وجود بعض النساء اللواتي ناضلن من أجل إيصال أصواتهن المبدعة، وأعتقد أن اقدمهن الشاعرة اليونانية سافو، التي اخترقت كل الطابوهات، فمنحت بنات جنسها طاقة متجددة للمقاومة وفرض الذات، بل أضحت رمزا للتحرر، تقول الشاعرة:
في ليلتي
راقبتُ من نفسي الثريا والقمر ْ
يتساقطان ْ
الآن نصف الليل ولى واندحرْ
يمضي الشبابْ
وأنا على هذا الفراش وحيدة ٌ
اما في ما يخص مدونة شعرنا العربي فيكفي ذكر اسم الخنساء، لتنتصب علما رفرافا، يطل علينا من شاهق، لقد أشعرت وأجادت، حتى عدها البعض من فحول الشعر ذكورا وإناثا، وقد خلدت اخاها صخرا في مراثيها الجميلة، ومنها قصيدته التي رثته فيها:
يذكرني طلوع ااشمس صخ…