في ظل المستجدات اليومية التي يعرفها عالمنا المعاصر، تظهر بين الحين والآخر تعابير لغوية تنضاف إلى ما تعج به القواميس والمعاجم، خاصة إذا كانت ذات حمولة رمزية، وغنية بالإيحاءات التي يجد فيها كل واحد نافذة لتمرير مواقفه وقناعاته.
حاصرتنا أيام كأس العالم بقطر عبارة “ديروا النية”، التي جعلت من مدرب المنتخب الوطني لكرة القدم، مدرب النوايا الحسنة. وكانت هذه العبارة ملاذا لكل من استعصى عليه إيجاد حلول للقضايا الكبيرة والصغيرة. وملاذا آمنا أيضا لكل مسؤول لم يجد جوابا للأسئلة الحارقة التي تقض مضجعه. فكانت النية قطعة الثلج التي تطفئ غضب الغاضبين، وتزيد في صبر الصابرين، وتمسح دموع الباكين، وتسكن آلام وأوجاع المتضررين.
بعد عام من “ديروا النية”، جاءتنا حرب غزة بكل ما تحمل من آلام، وجروح لن ينساها التاريخ، من تقتيل للمدنيين العزل، والأطفال والنساء، من طرف آلة الحرب الإسرائيلية. جاءتنا، بعبارة أخرى بوزن آلام وجروح أهل غزة، آلام وجروح ستسكن دواخل كل أصحاب الضمائر الحية، حيث تداول الخبراء العسكريون والمحللون السياسيون والاستراتيجيون عبارة “المسافة الصفر”.
المسافة الصفر، تعني أن المحارب الفلسطيني له القدرة على قصف الآلة الحربية الإسرائيلية، أو الجندي الإسرائيلي على مسافة صفر متر. هذا أمر عادي إذا ما اعتبرنا طبيعة مكان المعركة التي تدور في الشوارع والأزقة والحارات، والتي يخبرها أهل غزة، وأيضا طبيعة الآلات الحربية للجيش الإسرائيلي، التي تسمح بالاقتراب منها دون إثارة انتباه من بداخلها.
إلا أن عبارة “المسافة الصفر” قد ترحل بنا إلى عوالم أخرى، وتوظيفات أكثر رمزية وإيحائية من عبارة “ديروا النية”، فالمسافة الصفر تعني أن المحارب الفلسطيني يؤمن بقضيته إيمانا صوفيا، يحملها في كيانه ووجدانه، فهو لا يقاتل من أجل مقابل شهري أو تعويضات جزافية، أو امتيازات من هنا وهناك، ولكنه يقاتل من أجل شعب، من أجل الأرض، من أجل البقاء، ومن أجل أشياء أخرى لا تقل قيمة عن الكرامة. من أجل هذا وذاك، كان أكثر جرأة من غيره ليقترب من الموت ماشيا على الأقدام، بين الركام وما تبقى من مساكن حارته، همه الوحيد إصابة الهدف. لا يهمه الانتصار بمعناه الضيق، لأنه لا منتصر في الحرب، والخسارة درجات، لكن ما يهمه أن يقدم ما لديه، أو ما تبقى له من شجاعة وعزة نفس، من أجل أن تعيش الأجيال القادمة بكرامة.
المسافة الصفر، لا أعتقد أنها ترتبط بمقاومة أهل غزة فقط، ولكنها ذات امتدادات متعددة، فما أحوجنا إليها يوميا لتدبير قضايانا اليومية، وما أحوج كل من تقلد منصبا عموميا أن يؤمن بها، ويجعلها قيمة مضافة إلى مجموع القيم النبيلة التي يؤمن بها.
المسافة الصفر، أن نتخذ المبادرة بإيمان قوي، وبرغبة الفدائي من أجل خدمة الوطن. أن يكون كل واحد فينا قريبا من قضايا الوطن، لا أن يغظ الطرف، ويتوارى وراء الأسباب الواهية، متكاسلا عن خدمة البلاد والعباد.
المسافة الصفر، أن نواجه المشاكل، نبحث لها عن الحلول، نبتكر ونجتهد، نبني مستقبل الأجيال القادمة، بعيدا عن المزايدات الفارغة، والصراعات المصلحية الآنية.
المسافة الصفر، أن نساهم كل من موقعه في ترسيخ أسس الدولة الاجتماعية، وأن نعالج قضايانا المجتمعية بحكمة، وأن نتشبث بثوابت الأمة الجامعة.
ما أحوج المواطن أن يكون على مسافة الصفر مع المسؤول عن تدبير شأنه اليومي… مع المستشفى… مع المدرسة… مع جميع المرافق… مع حب الخير لبعضنا… مع الصدق في المعاملات…
المسافة الصفر، ما هي إلا الجدية والإخلاص في القيام بالواجب خدمة لهذا البلد الأمين