” وجهات حياة” نوع من الأرخبيل الأدبي، تَعاقب لأهداب تاريخ يتم تسليط الضوء عليه خدمة لذكرى القارئ الذي عاشها، بل عانى منها؛ لكنه يشكل، بالنسبة لآخرين كثيرين، عمليات تسليط ضوء لهم حق التعامل معها كاكتشافات جديدة. إنها حقبة ببطلاتها وبأبطالها الذين لا يستطيع من هم دون الستين التشكيك في وجودهم.
بورتريهات ثرية بالألوان، لنساء ولرجال تَمثل نصيبهم اليومي في مواجهة سلسلة اختبارات لا يمكن تصورها خلال القرن العشرين: سوء التغذية، انعدام الرعاية الصحية، البرد، الأمراض بكل أنواعها. فبعض مقاطع هذا النص الحكائي مُخيفة، بينما تُوَلد أخرى القشعريرة فعلا، كشهادة محمد مهيب حول سوء المعاملة الجسدية التي يتكبدها الصبية داخل المدارس القرآنية، التي لا تليق سوى بالسيء الذكر: درب مولاي الشريف”. بهذا التوصيف البالغ الشعرية والدقيق التوصيف يقدم الكاتب والناقد السينمائي علي حسن الكتاب الصادر عن منشورات النورس، الموسوم ب”ميدلت: وجهات حياة، شهادات، معيش وأساطير” لكاتبيه مجيد بلال ومحمد مهيب، والذي ترجمه كل من الكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس وسعيد رباعي..
يحكي الكتاب بسلاسة ما يتجاوز مقتطفات من سيرة الكاتبين، بل يتجاوز لما يشبه نشيدا ملحميا لجيل بكامله، عاش أمام كل التهديدات الوجودية ليقاوم من أجل البقاء، وان يشم زمنه ويخلد أسماء، وحكايات، وذكريات وتاريخ محكي، لا علاقة له بالتاريخ الرسمي، بل بأفراد من الهامش تميزوا بطاقات أحيانا خارقة أو فوق طبيعية وصمدوا ووشموا زمنهم.
“ميدلت، وجهات حياة” وعبر مسار محكيات تشد القارئ إليها منذ أول سطر في الكتاب، لأنها تقولنا جميعا، وتحتفي بمعيش وأساطير ومحكي وذاكرة ثقافة محلية باذخة، يقول الكاتبان في تقديم مؤلفهما: ” ننجز، اليوم، وبيدين، عملا ظل يشغلنا منذ أمد طويل.
إن الحكايات والقصص التي يتشكل منها هذا المؤلف تم تجميعها من خلال ما خزنته الذاكرة منذ الطفولة، من قلب الممارسة اليومية، من الحكي في السهرات الطويلة، ومن خلال التبادلات الجماعية كذلك.
تشكل الشهادات، وأشكال التكريم والاحتفاء والأساطير المحلية حصة الأسد في مؤلفنا هذا. فمن خلال ثلاثة حوامل، حصلت لدينا القناعة الراسخة بأن عملنا إسهام يساعد في محاربة النسيان.
التزمنا، من خلال هذا التعاون الخاص، المساهمة في توطيد الثقافة الجهوية، ونحن نقدم عناصر بسيطة تؤكد الأصالة، التفرد والشهادات من خلال حكايات قصيرة، عبر ذكريات ومحكيات تعرض حياة اليومي. إنه تراث عظيم يظل في حاجة مستمرة للتنقيح.. فنحن في حاجة إلى بناء هوياتي يقوم على حقائق، على الواقعي، على الملموس وليس على هوية مغتصبَة، تمت صياغتها، على عجلة، من رماد الاقتراض.
على غرار مدن المغرب كلها، فإن الثقافة المحلية لجهة ميدلت مُشبعة بالخيال الجماعي، بشخصيات يفوق حجم حضورها حدود الطبيعة، ممتلئة بالدعابة وهي تتقاسم نفس المرجعيات ذات التوريات، الوضعيات والمعتقدات التي تتلاقح داخل الوسط الاجتماعي.. هنا يجد العقل والدقة مكانهما المناسب؛ سنعمل، ذكرى بعد ذكرى، على بناء ذاكرة جماعية على أساس ما عايشناه، على أساس معتقداتنا، انتماءاتنا، أساطيرنا، ومحكيات بطولاتنا الشعبية والملحمية أيضا. سنُثمن خصوصياتنا التي تنتظر فقط فرصة الانبثاق إذا كنا على استعداد لفتح رؤوسنا لها لو عملنا على التفكير فيها بشكل جيد”.