حسن مجتهد
عادت بي ذاكرتي حينما انقطع التيار الكهربائي في إحدى ليالي رمضان بالحي الذي أقطنه…. إلى إحدى الذكريات القريبة الزمن… وأنا أخفف على أبنائي هلع الانقطاع المفاجيء للكهرباء…. حينها فكرت في جر أبنائي إلى حكاية واقعية حتى أُلهيهم عما أصابهم من خوف العتمة الذي ألم بهم على حين غرة؛ خصوصاً وأن مادة الشمع لم تكن متوفرة ساعتها…. واستعنّا فقط بنور الهواتف المحمولة … وبدأت بسم الله أحكي لهم …
حكيت لهم أنه منذ ما يزيد عن ثماني سنوات حينما كنت في زيارة سياحية إلى إحدى المدن الفرنسية كضيف على أحد أخواتي المتزوجات هناك… وفي ليلة مقمرة قرّرَتْ إحدى أخواتي أن تطبخ لنا دجاجاً محمراً بالطريقة المغربية؛ وفعلاً لشدة ما فرحت؛ انتباني شعور النشوة بالعودة إلى بلدي المغرب… حكيت لأبنائي أنه حينما هَمَّتْ أختي بالإعداد والاستعداد لاحتفالية العشاء… وقع ما وقع…
في تلك الليلة وبينما أنا مُنهمك في غسل أدمغة أبناء أختي وتلقينهم بعض المصطلحات والمستملحات الشعبية التي تؤصل لجذرهم العربي الإسلامي المغربي … محاولاً التأكيد لهم أن الغرب اقتبس من العرب جل علومهم وثقافتهم؛ وأن ما يتبجحون به اليوم هو صنيع للعرب بالأمس؛ فيما أختي كانت تلقي السمع بيننا تارة تزكي ما أقول وتارة تعقب وتارة أخرى تتهكم… قلت بينما أنا منهمك في هذا الموضوع انقطع التيار الكهربائي الفرنسي وطافت بالبيت ظلمة حالكة وتوقف التلقين والسرد والأكل والكلام…. وعلى التو وكعادتنا في المغرب وعلى الفور حينما تقع مثل هاته النوازل نسأل على قراطيس الشمع…. تفاجأ الجميع بهذا المصطلح وابتسمت أختي؛ وردّت بهدوء بأنه لا يوفرون هاته المادة إلا في أعياد الميلاد فقط… انتظرنا طويلاً… علّنا نظفر بعودة التيار الفرنسي …
حملقنا في بعضنا البعض فلم نستطع تكملة سمرنا الليلي إلا بالبحث عن حل وبأية طريقة؛ وكَحَلٍّ ترقيعي طَلَبْتُ من أختي والحاضرين من الأبناء بأن يأتوني بصحن مقعر أقصد “جبّانِية”؛ وبالفعل تم إحضارها وناديت على قليل من الزيت وقطعة ثوب… تساءل الجميع عمّا أود صنعه… قلبت الصحن وبَرَمْتُ ذلك الثوب كي يصبح على شكل فتيلة؛ وأفرغت قليلاً من الزيت على الصحن المقلوب؛ لعلي آتي لهم بقبس من اختراعي به يصطلون… وفعلاً بهذا الفانوس السحري التقليدي عاد للبيت وميضهُ وابتسم الجميع؛ وتراخت على جدران البيت ظِلالنا وهي تتراقص الهُويْنَا؛ وعُدنا إلى دجاجاتنا … التي تنتظر الطبخ… فنتفاجنأ مرة أخرى بأن آلة الطبخ تشتغل هي الأخرى بالكهرباء … حينها عجلت بتوجيه سؤال إلى أختي وهي مُحْرَجَةٌ من هوله… قلت لها أَيَا أختي هل لي بتوجيه سؤال لكم… وأنا أسخر صراحة من وضع المشهد… قالت تفضل وهي واعية بأن جوابها لن يشفي غليلي…. قلت لها وأنا استهزيء مما وقع: “هل نحن في فرنسا ؟”…ردت قائلة كي تضمد جراح هذا الوضع: ” نفس السؤال أخي كنت أود أن أوجهه لك وخجلت”… أجبتها على الفور وبابتسامة عريضة؛ وقد مر على انقطاع الكهرباء ما يناهز أربع ساعات وأصبحنا على مسافة قليلة من منتصف الليل؛ مما يعني استحالة تناول تلك الدجاجة الشمطاء الذي كنت قد برمجت معدتي عليه… أجبتها:” لا عليك أخوك حرباء يتلون كما يتلون الزمان والمكان”…. وشدَّني الحنين لحظتها إلى بلدي حينما ينقطع التيار المغربي … قائلاً لها وهي تدرك ذلك: ” تعلمين أختي أنه بالرغم من الارتجال الذي يسود سياساتنا العمومية في المغرب فإن مثل هاته المواقف المفاجئة تحل على الفور”… ولا أخفيكم أنني خلال هاته الليلة كلِّها وأنا أُقهقه على فرنسا وعلى من يقطنها من المهاجرين .. حتى أبناء أختي المراهقين سخرت منهم وهم فرنسيو المنشأ والترعرع.
التزمنا الصمت للحظات وتساءلت مع أختي عما نسمعه ونتداوله من الدِّقة في الاستعجال وفي قيم المواطنة التي تتشدق بها بلاد العجم … وحينما أَدْرَكَنَا الصباح وبعد طول انتظار لعودة قاهر العتمات؛ سكتنا عن الكلام المباح؛ تَحَرَّرَتْ الدجاجة من كومة الثلج المحاطة بها وتحررت من تكالبنا عليها؛ وعدنا أدراجنا فارغي البطون .. إلى حيث الخلود إلى النوم وأنا متخوم بالضحك والقهقهة على بلد مازال انطباعنا عليه إيجابياً وخيالياً….
وحينما لاحت خيوط نور صباح اليوم الموالي … استيقظت على ثقب نافذة يشع منه نور شمس هادئة… واستيقظ الجميع وهو يحكي هول الليلة الماضية…. لكن الجميل والأجمل هو مكوث كومة سواد ثاني أكسيد الكاربون جيوب أنوفنا جميعاً والنابعة من ذاك الفانوس… والتي جعلت الجميع يحتج على ذلك الاختراع العجيب الذي كنتُ بطله؛ رقعت به نور تلك الليلة الحالكة… فما كان ردِّي … إلا أن ابتسمتُ في وجوههم؛ وقلت لهم – ونحن نتناول وجبة الفطور- إن الصحن/جَبَّانية التي نستعملها في المغرب في مثل هاته اللحظات؛ هي من الطين وليست من السيراميك؛ وأن الزيت الذي نضيء به هو زيت طبيعي نباتي وليس زيتاً اصطناعياً؛ وأن الفتيل الذي نستعمله هو فتيل من القطن وليس من النايلون… وخرجتُ منها سالماً غانماً مبرراً موقفي … وعلمتُ حينها أن زيتنا ليس هو زيتهم وصحوننا ليست هي صحونهم وثوبنا ليس هو ثوبهم وهواءنا ليس هو هواءهم وأن لكل مقام مقال… وقبل أن أنهي حكايتي لأبنائي أي ما يقارب الساعة؛ اشتغل التيار المغربي وتفرق أبنائي من دون إذن مني … وتركوني أكمل الحكاية لوحدي؛ ولم يستفسرني أحد عن فصولها؛ وتَمَنَّيْتُ لو تكررت الانقطاعات الكهربائية؛ لأنه لحظتها شعرت بدفء العائلة وباستماع الجميع لحكايتي، وبتحررهم من هوجاء الهواتف النقالة وما تتقاذفه من صور ومشاهد من كل أصقاع العالم.
والسلام خير ختام
طاب نهاركم
وتقبل الله صيامكم