رفيق الرضي – كاتب يمني
الشعر ديوان العرب وقد سجَّل الشعر فصولا مهمَّة من تاريخنا وتراثنا بطرق مختلفة تضمنت الجد في أحيان كثيرة والهزل في بعض الأحيان، وكان لكل شاعر موهبته وأسلوبه ومفرداته الشعرية في توثيق المرحلة الزمنية التي عاش فيها، ولصعوبة كتابة القصيدة الهزلية فقد ابتعد أغلب الشعراء قديما وحديثا عن وصف الحياة وتناولها شعرا بطريقة هزلية.
نجهل الكثير من تاريخنا اليمني وخاصة ما يتعلَّق بفترة الاحتلال العثماني لليمن، وما شهده من صراعات وخلافات داخلية بين اليمنيين، وخارجية ضد الاحتلال العثماني، لكن اللافت للانتباه أن الحياة في صنعاء في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت حياة عصرية بمقاييس اليوم، إذ كانت صنعاء متنفسًا لما حولها، وكانت تتمتَّع بمساحة واسعة من الحرية أسهمت في ظهور الفنون المختلفة، وكان ينظر إليها ممَّن حولها كمصدر للفوضى أو الاستقرار كما أشار إلى ذلك الدكتور إبراهيم أبوطالب في حديثه ونقله عمن سبق وتناولوا تلك المرحلة.
وبالعودة إلى تلك الحقبة، فقد صدر حديثاً عن دار ديوان العرب بمصر ديوان (القاره)، “ليكتمل بصدوره الثنائي المعروف بديواني (الخفنجي والقاره)، كما تداولتهما المخطوطات اليمنية، ويعدُّ الديوان ضمن الأدب الشعبي وفنونه، وضمن أدب الشعر الحميني والحكمي في اليمن الكبير بتراثه ورجاله الأعلام عبر التاريخ والعصور، وخلال قرون من الشعر حملت التاريخ، والجمال، والفن، والعبرة بكل أساليب التعبير وألوان الخطاب الإبداعي العامي والفصيح”، كما أورده الأستاذ الدكتور إبراهيم أبوطالب الذي قام بدراسة وتحقيق الديوان الذي يتضمن لوحات شعرية نقلت لنا جوانب من حياة الناس في صنعاء في القرن التاسع عشر الميلادي، ويبين الدكتور أبوطالب في مقدمته للتحقيق أنَّ ديواني (القاره) و(الخفنجي) ظلَّا مخطوطين لسنوات طويلة، يتداولهما الناس ويحتفظون بهما، ويحفظون معظم أشعارهما الظريفة والسَّاخرة والمدهشة في جرأتها وظرافتها وعمقها، كما أشار إلى التلازم بين شعريهما فلا يذكر شعر (القَارة) إلا ويذكر معه شعر (الخفنجي)، ولا ينسخ ديوان أحدهما إلا ويليه ديوان الآخر. فأصبحا كوجهي العملة الواحدة على الرغم من أنَّ بينهما من الفارق الزمني قرابة القرن حيث (توفي الخفنجي سنة 1180هـ/ 1767م، وتوفي القاره سنة 1295هـ/ 1878م). ولكن ظل شعرهما محفوظا ومتداولا، لا ينفكُّ ديواناهما عن بعض كلَّما نُسخا أو حفظا أو استشهد من شعرهما، وقد بيَّنا – والحديث للدكتور أبوطالب – في تحقيق ديوان (الخفنجي) السابق لهذا، “ورأينا أن يتلازم الديوانان في التحقيق كما تلازما في النسخ العديدة، وفي الأزمنة البعيدة، وفور الانتهاء من تحقيق ديوان (الخفنجي)، شرعتُ في ديوان (القاره)، تحقيقا ودراسة”.
ويسهب الدكتور أبوطالب في حديثه عن الشاعرين، وتميزهما بالموهبة الشعرية وقدرتهما على الوصف والتصوير، ما جعل المؤرخين يتناقلون قصائدهما ويستشهدون بها، كما لفتت شاعريتهما كبار المؤرخين واللغويين والأدباء والنقاد الذين اعتنوا بشعر هذين الرجلين، وذكروهما كثيرًا في مؤلفاتهم، واستشهدوا بشعرهما في مختلف الأغراض والمواقف، ما خلق الدافع للدكتور أبوطالب لدراسة وتحقيق الديوانين ضمن مشروع تحقيق عدد من الدواوين بوصفها مشروعًا متكاملا في دراسة الأدب الشعبي اليمني؛ لما في ذلك الأدب من عمق إنساني، وإبداع حقيقي يأبى على الضياع، ويقاوم الفناء، ويحمل الكثير من صور المجتمع وحياة الناس ونظرتهم للواقع من حولهم، كما احتفظت به الذائقة الشعبية والمحكية اليمنية، والرواية الشفوية والتحريرية، وتداولته أزمانًا طويلة، وكل ذلك بلا شك علامة دالة على مكانة ذلك الشعر، ومؤشر على قيمته الفنية والإبداعية والاجتماعية والثقافية واللغوية.
وقد وصف الشاعر (القارة) أحداثًا كثيرة ومواقف سياسية واجتماعية في القرن التاسع عشر الميلادي، تضمن وصف حياة الناس وعلاقتهم بالوجود التركي في اليمن؛ مبينا الكثير من أخبارهم، وتعاملاتهم، كما وضح في شعره ونثره نظرته ونظرة الناس إليهم، بما يشكِّل وثيقة تاريخية واجتماعية وأدبية لمرحلة مهمة من تاريخ اليمن، وقد صوَّرها بطريقة أدبية ساخرة.
كما بيَّن في شعره الكثير من النزاعات التي كانت تعيشها اليمن، وكثرة الخلافات بين الأئمة، والاضطرابات السياسية التي عاشها المواطن بين أطراف الصراع من أتراك، وقبائل، وأئمة، وقد أوضحها ساخرًا وواصفا في وثيقة شعرية تكاد تكون ملحمة شعبية رافضة لذلك العبث، وتلك الأحداث التي خصَّ فيها باللوم الأكبر أهلَ صنعاء؛ لأنه كان يرى أن المدينة هي مصدر الاستقرار أو سبب الفوضى، وقد تنبه لذلك الدكتور المقالح، حيث قال: “… لقد أرجع جزءا مما حدث إلى الشعب، وأرجع جزءًا من المسؤولية إلى أطماع الأئمة، لكنه كاد أن يضع مسؤولية الفوضى بأجمعها على عاتق أهل صنعاء؛ لأنه بوصفه شاعرا قرويا ينظر إلى المدينة نظرة مليئة بالحقد والارتياب…”[د. عبد العزيز المقالح: شعر العامية في اليمن، دراسة تاريخية، ونقدية، دار العودة، بيروت، ط1، 1978م ص381-382].
وفي مقدمته للتحقيق أشار الدكتور أبوطالب إلى تميز الشاعر (القاره) بقدرة فنية على الرسم وتصوير أفراد مجتمعه، ووصف أبناء عصره من الشخصيات السياسية أو الشخصيات الاجتماعية تصويرا ساخرا، كما وصف الكثير من الشخصيات الاجتماعية أمثال بعض المشايخ، وبعض المغنين، والمنشدين، وأصحاب الحرف، كما وصف المدني والقبيلي (الفلاح)، والتركي، والعسكري، والقاضي، وغيرهم من طبقات المجتمع المختلفة، مع خصوصية اللغة التي كتب بها والمرتبطة بالمناطق التي عاش فيها (القاره، وكوكبان، والمحويت، وبعض مناطق حجة وغيرها)، قبل قرنين من الزمان تقريبا، وبذلك يكون شعره -كما كان شعر الخفنجي من قبله- وثيقة مهمة للدراسات اللغوية بمختلف مستوياتها الصوتية، والصرفية، والنحوية، والتركيبية، والدلالية، وقد امتاز ديوان (القاره) بمزاوجته في الوصف والمكاتبات والرسائل بين الفصحى والعامية وبين الشعر والنثر، وهذه خاصية لافتة في عدد من محتويات ديوانه هذا، بل نجد له ما يُدعى بالمقامة الشعبية في مثل حديثه عن (المأكولات اليمنية ومسمياتها المختلفة)، وكذلك حواراته الساخرة التي يحاور فيها (إبليس) الذي يبدي قَلَقه وفزعه من أعمال الأتراك الذين نزعوا وظيفته ووظائف أبنائه حتى لم يعد له وجود مبرر، فيخاف على وجوده وسمعته الإبليسية، ويجعله بطلا لمقالة (مقامة) طويلة يتحدث فيها عن ثلاثة حكَّام، ويبين في حواراته تلك -شعرا ونثرا- قدرته الفنية، وخياله الخصب، وروحه الساخرة الفكاهية. وهذه وغيرها من الأسباب كانت وراء استمرار شعره – كشعر الخفنجي- وقدرته على البقاء عبر الأجيال المتلاحقة ودخوله في نسيج الوعي واللاوعي الجمعي -كليهما-، والروح الشعبية والأدب العامي المتداول والسيَّار بين الناس.
ساعده على ذلك كما يقول الدكتور أبوطالب أنَّه كان صاحب ثقافة واسعة، ومعرفة بالأعلام من الأدباء والشعراء وبالفنون والكتب والبلدان، وغيرها سواء ما كان منها فصيحا أو شعبيا، وكذلك ظهر حسن اقتباسه وتضمينه لبعض الأقوال والأشعار والإشارات إلى بعض الأعلام من الأدباء والمفكرين العرب قديما، كما ظهر في شعره الكثير من الأماكن التي تحرَّك فيها، وعاش متنقلا بين جنباتها، وهي تمثل صورة للحياة في عصره، وتساعد الباحثين في تعقُّب سيرته الذاتية وفهمها لمن أراد دراسة حياته من شعره ونثره. إضافة إلى استخدامه للتشبيهات والاستعارات وفنون البيان وعلم المعاني والبديع كل ذلك أتاح لشعره الانتشار والقبول، وتداوله المثقفون في الأوساط الاجتماعية المختلفة، بحيث لا تكاد تخلو مكتبة من المكتبات الكبرى لبيوتات العلم والأدب في اليمن من نسخةٍ أو أكثر من ديوانيهما.
ويختم الدكتور أبوطالب مقدمته للديوان بالإشارة إلى اهتمام الشاعر (القاره) بالحكايات، وبالحديث عن الموروثات الشعبية، التي نظمت شعرا لحكايات شعبية مكتملة الأركان والعناصر والشخصيات والأحداث السردية، إضافة إلى أن (القاره) كان مثقفا كبيرا، ولغته وألفاظه مأنوسة جدا وواضحة إلى حد كبير، إذا قابلته بقرنائه من الشعراء في عصره، أو حتى بـ(الخفنجي)، ولعل ذلك يرجع إلى قرب الزمن النسبي من عصرنا، وكذلك لامتلاكه القدرة على النظم بالفصحى، كما كان يجيد التعبير بالعامية المحكية (الحميني). وكل ذلك يلاحظه القارئ في ديوانه، كما يدل على اطلاع واسع ومعرفة عميقة وأصيلة بالتراث، وبأعلامه الكبار.
]