الكتاب يشكل رؤية بانورامية لتجليات أفكار ورؤى وآراء الفيلسوف والمفكر الفرنسي، وقد ضم مقالات عنه وحول كتبه وحوارات أجريت معه.
تزيفتان تودوروف
تزيفتان تودوروف’أوروبا تبدو كأنها متقوقعة في تناقضاتها’
في الكثير من كتبه ومن بينها “أعداء الديموقراطية الحميمون”، “الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات”، و”الحديقة المنقوصة: تركة الإنسانية”، و”الفوضى العالمية الجديدة، تأملات مواطن أوروبي”، يكرس الفيلسوف والمفكر الفرنسي تزيفتان تودوروف، لنقد الأصوات المتطرفة في الغرب التي تعادي الآخر بطريقة تنم عن الغطرسة والصلف، كما يهاجم الآراء العنصرية والمتعالية مستعينا بآراء أنثروبولوجيين يتسمون بنزعة إنسانية.
وهذا الكتاب “تزيفتان تودوروف.. تأملات في الحضارة والديمقراطية والغيرية” الذي ترجمه محمد الجرطي يشكل رؤية بانورامية لتجليات أفكار ورؤى وآراء تودوروف، وقد ضم مقالات عنه وحول كتبه وحوارات أجريت معه.
يقول تودوروف في حواره مع دانييل سالفاتور شيفر “الهدوء والاستقرار اللذين كنا نتوقعهما بعد انهيار جدار برلين ونهاية ما سمي “الحرب الباردة” لم يتحقق كليا، وذلك لأنه بات واضحا للعيان أن الديموقراطية أفرزت أعداءها السيئين الذين نشأوا من رحمها نفسه بسبب تآ كلها الداخلي، إنهم يمثلون، على نحو ما، أبناءها غير الشرعيين الذين ينظر إليهم كانحراف وحيدان مرتبط بالمبادئ الديموقراطية نفسها. فالديموقراطية مهددة بفعل التأثيرات المنحرفة للمتطلبات الديموقراطية الملحة! في كتابي الأخير “أعداء الديموقراطية الحميمون”، توقفت عند ثلاثة نماذج كبرى قمت بتحليلها في هذا الكتاب بشكل مفصل، من بينها ما أسميته بـ “الاقتضاء الديموقراطي” الملازم للمشروع الديموقراطي نفسه. لأن الديموقراطية ليست حالة نتجت، مبدئيا، عن وضعية موجودة سابقا. كما أنها لا تنصاع لفلسفة محافظة أو فكر حتمي، أو لمحاولة الحفاظ على ما هو موجود سلفا أو لاحترام غير مشروط للتقاليد. كما لا تستند الديموقراطية في مرجعيتها إلى كتاب قديم ومقدس كنوع من القانون الذي يجب ـ دوما ـ تطبيقه بطريقة متكاملة. وبالتأكيد، فإن هذا العامل من الاقتضاء خليق بالثناء في ذاته، غير أن ما حدث في مراحل معينة من الديموقراطية، هو أنها كانت تنشط بدافع قناعة راسخة: قناعة تحملها على الاعتقاد أنها حاملة للخير األسمى، ومن ثم ترى أنه من المشروع أن تفرض هذا الخير على الآخرين بالقوة، بما في ذلك اللجوء إلى القوة العسكرية. وهذا ما حدث – للأسف- خلال الشهور الأخيرة في ليبيا، وقبل ذلك في مسار الديموقراطية، إذ يصبح التطلع إلى التقدم الذي يشكل أهم مبادئ الديموقراطية، مصدر دمار وتخريب للدول التي لا تتقاسم معنا هذه المبادئ. وبتعبير آخر، يتخذ الشر ـ في هذه الحالة ـ صبغة الخير، وليس ثمة، في الواقع، مفارقة أكبر من هذا! ولقد استلهمت من هذا الأمر عنوان أحد كتبي السابقة “ذاكرة الشر، إغواء الخير”.
ويضيف في حواره مع ريتشارد ويرلي “في غضون السنوات الأخيرة، فوجئت بأن رؤية المطالبة الحصرية بالحرّية قد غدت سمة الأحزاب الأوروبية لليمين المتطرف. يقودني هذا الأمر إلى إعادة التفكير في المرحلة الحالية للديموقراطية، لقد تم طيّ صفحة من التاريخ: لم يعد للديموقراطية أعداء يهددونها من الخارج. لقد ماتت النزعات الكليانية. وليس ثمة وجود لأي مشروع مجتمعي نظير قادر على منافسة الديموقراطية. المحاولات التي تسعى إلى تقديم النزعة الإسلامية كمرشح للعب هذا الدور قد باءت بالفشل. بل إن الديموقراطية، منذ الآن، باتت مهددة ومتآكلة من الداخل. أعداؤها هم أبناؤها غير الشرعيين، والمبادئ الديموقراطية المعزولة والمقتطعة من مشروع الجماعة، هي التي تنعكس سلبا على الديموقراطية. على سبيل المثال المسيحية السياسية للمحافظين الجدد تقدم نفسها كحامل للتقدم وحقوق الإنسان والازدهار الاقتصادي للجميع، غير أنها تتناسى أن تطلب رضا وموافقة هؤلاء الناس الذين تتوجه إليهم، وترسل إليهم جيشها ليحررها. وكنتيجة لهذا النزوع، يتم إضفاء طابع الشرعية على التعذيب الذي، فضلا عن ذلك، وافقت عليه الدول الأوروبية بلا تردد.
ويؤكد تودوروف إن الديموقراطية، في الولايات المتحدة كما هو الشأن في أوروبا، أصبحت متآ كلة ومهددة من طرف السلطة المفرطة في التجاوزات التي اكتسبها أصحاب النفوذ المالي.. إن تمويل الحملات الانتخابية من طرف المقاولات والشركات الذي أصبح يحظى بالشرعية، يفسد العملية الديموقراطية. وكل هذا يحدث باسم أرقى الديموقراطيات وأعرقها.
ويرى أن انحطاط النموذج الديموقراطي الأوروبي يعود إلى مجموعة من الصعوبات المتشابكة فيما بينها. هناك أولا معضلة العقليات. نفتقر في أوروبا إلى هذه الحيوية الاجتماعية التي تغذي الديموقراطية في الولايات المتحدة. هناك – رغم أنهم يعانون من معضلات أخرى كثيرة – يبقى تشجيع الشباب الموهوب أمرا طبيعي؛ لهذا السبب تبقى أميركا الشمالية منطقة جذابة. في أوروبا، تقضي النزعة الشكلانية الشرعوية (نزعة الاهتمام باحترام الشرع بدقة)على الشباب الموهوب، وتحد من طموحه بشكل كبير. دولة الحق التي نعيش في ظلالها تبقى إرثا ثمنيا يجب حمايته والذود عنه. لكننا نتناسى، في الكثير من دول القارة العجوز، أن الحرية تتوقف على التفتح الفردي، يفسر جزء من هذه المعادلة ـ بلا شك ـ بالشيخوخة الساكنة. ليس بمقدورنا أن نملك، بهذه الديموقراطية الأوروبية، نمط اشتغال نشيط وجاذبية الدول البارزة. لا يمكن أن نطلب من قارة، في سن كهذا، أن تكون القارة الظافرة بشكل أكبر. يهدف خطابي إلى لفت الانتباه والتيقظ؛ كل هذه الأمور لها تأثيرات وخيمة على ديموقراطيتنا.
ويؤكد أن أوروبا تبدو كأنها متقوقعة في تناقضاتها. يعاني الاتحاد الأوروبي من معضلة مؤسساتية، ويوجد – حسب التعبير الشائع “وسط مخاضات”. لقد كشفت الأزمة الراهنة عن ضرورة التوافر على وسائل مشتركة لاتخاذ القرار كي نحمي أنفسنا من المخاطر المشتركة بكل تأكيد، هذه الوسائل غير موجودة. تبقى الدول الكبرى، والحالة هذه، كألمانيا وفرنسا، هي التي تضطلع بلعب هذا الدور. وهنا موطن عجز واضح و”امتيازات إشكالية”. يكمن المثال، من جهة، في وحدة مختلف هذه السلطات الموجهة التي تولد الاضطراب في الوقت الراهن- رئيس اللجنة الأوروبية، رئيس المجلس والرئاسة الحلزونية للمجلس نفسه – ومن جهة أخرى، يجب أن تنتخب هذه السلطة الموجهة من طرف البرلمان الأوروبي، بوصفه المؤسسة الأكثر ديموقراطية في الاتحاد، لأنه نتاج الانتخابات مباشرة. إن الأحزاب الشعبوية، التي استقوت وتوطدت في أوروبا في غضون العقود الأخيرة، تكرس نزعة مانوية للقيم تشبه البلاغة الشيوعية في فترة مراهقتي. لقد عشت إلى حدود الرابعة والعشرين من عمري في بلغاريا، ولم أنس التنديدات والوسم السكوني الثابت للأعداء الرأسماليين على أنهم المجسِدون للشر. في الحاضر، تثير الأحزاب الشعبوية، باستمرار، قضية تهديد “النزعة الإسلامو- فاشية” كما لو أن ما يعيق حياتنا، قبل كل شيء، هو مصادفة النساء المحجبات في الشارع.
ويلاحظ تودوروف إن نزعة كراهية الأجانب التي تروج لها الأحزاب الشعبوية نابعة من عقلية مناوئة لعقلية أوروبا. نتناسى أن التوسع الأوروبي يعزى إلى كون أوروبا احتلت، طيلة قرون مقاما رفيعا كملتقى للثقافات ومكانا للتعايش. لقد استطاعت دولنا أن تتشرب المكاسب والأفكار الطليعية التي تَّم إنجازها في البدء، في مكان آخر، وبشكل جوهري في آسيا، والتي تبقى قارتنا شامخة. إن السعي إلى اجتثاث أوروبا وعزلها عن بقية العالم وحبسها وراء جدار يمثل محاولة لتقسيم أوروبا إلى مقاطعات. لاحظ، في فرنسا، العمل غير المعقول هو الذي يسعى إلى منع الطلاب الأجانب من العمل في هذا البلد بينما هذا العمل من الممكن أن يكون وسيلة لتنمية الإشعاع الدولي لفرنسا. وعلى الشاكلة نفسها، تبقى سياسة عدد المهاجرين الواجب طردهم، والتي تتم ممارستها في فرنسا، سياسة مدانة ومذمومة، لأننا بهذه الطريقة لن نعامل الكائنات البشرية كأفراد. وليس من العدل التعامل مع الإنسان كرقم.
ويشدد على إن الصراعات التي تحتدم اليوم ليست صراعات ذات طبيعة دينية مهما جاهد البعض إليهامنا بذلك، بل إنها صراعات ذات طبيعة سياسية. ليس ثمة وجود لمشاكل مع الإسلام. هناك مشاكل مع عدد من البلدان، ولكن ليس مع كل الدول الإسلامية. لنتأمل هذا المثل المعبر والدال؛ إن البلدين الثيوقراطيين اليوم هما إيران والسعودية. فالبلد الأول هو بمثابة العدو اللدود للولايات المتحدة الأميركية، والثاني هو الصديق الحميم لها.
ويلفت تودوروف في حواره مع باتريس دوميرتين إلى أن الغرب اليوم يجد الغرب نفسه متورطا في حروب تسمى، أحيانا، الحروب الإنسانية، المفروض أن تجلب الخير للآخرين: حقوق الإنسان، الديموقراطية، الازدهار.. وهكذا حدث التدخل في العراق، في أفغانستان، في ليبيا، غير أن نتائج هذا التدخل وهذه الحروب لم ترق إلى مستوى توقعاتنا ولسبب وجيه: ليس إخضاع الشعوب هو الذي سيجعلها تنعم بالحرية، وليس القصف هو الذي سيجعلها تعيش في السلام. هناك مفارقة أكيدة نراها اليوم في عبارة “التدخل الإنساني” التي أصبحت تورية تلطيفية لعبارة “التدخل العسكري” هناك عدو حميمي آخر للديموقراطية؛ الليبرالية المتطرفة. تنطلق هذه الإيديولوجية الخفية ـ التي تهيمن في وقتنا الحاضر ـ من مسلمات ثابتة لا جدال فيها، مسلمات تنص على أن الفرد قادر على تحقيق الاكتفاء بذاته ولذاته، وأن إشباع وتحقيق الحاجيات المادية يشكل القيمة العليا للحياة البشرية البشرية. وهكذا، تؤدي هذه الإيديولوجية – بالتأكيد – إلى نتائج كليانية. يتم عزل النشاط الاقتصادي عن الجوانب الأخرى للوجود الإنساني، ويشغل – في الوقت نفسه – مكانه مركزية تهيمن على باقي مناحي الحياة. باسم الحرية الفردية، تقلع السلطة السياسية عن الحد من نفوذ السلطة الاقتصادية، وتنتهك -على هذا النحو- القاعدة الذهبية التي صاغها مونتسكيو في هذه العبارة: “كل سلطة بلا حدود، لا يمكن أن تكون سلطة مشروعة”. حين ينفلت الاقتصاد من رقابة السياسة، فإنه يصبح قضية خبراء منفصلين عن الوطن وبعيدين عن الصالح العام. ليس المقصود هو التخندق في الطرف الآخر والدعوة إلى اقتصاد مؤمم، بل الهدف هو تجنب العقبات التناظرية. المدمرة ّ للحرية، كما هو الشأن أيضا بالنسبة للنزعات التي تستهدف تدمير بعض الطبقات الاجتماعية. في الحياة اليومية، يؤدي هذا البحث الجامح عن الربح الفوري إلى فقدان المعنى في الحياة وبرمجة العقول على تجريد الكائن البشري من إنسانيته. ثمة خطر آخر ناجم عن القيم الديموقراطية؛ هو الشعبوية التي أصبحت تتمتع بنفوذ متزايد في أوروبا والتي تؤدي خياراتها، التي تتسم بقصر النظر، إلى اختيار أكباش المحرقة وإلى تنامي نزعة كره الأجانب المقّنعة بشكل كبير، في حين أن الانفتاح على العالم هو شرط ضروري لتفتح البلد وتطوره.
المصدر ميدل ايست اونلاين