فاطمة موسى وجى
“جنة الفلاسفة” هي آخر رواية جادت بها قريحة الأديب المغربي مصطفى لغتيري، صدرت عن”منشورات دار التوحيدي” عام 2024, وهي مكونة من مائة صفحة من الحجم المتوسط، وقد نظم حفل توقيعها خلال الدورة 29 من المعرض الدولي للكتاب بالرباط.
على غلاف الرواية، يظهر رسم يمزج بين شكل الرأس وأغصان أو فروع كثيفة لشجرة خالية من الأوراق، داخل إطار بألوان ترابية تميل إلى الصفرة في إحدى الزوايا.
عنوان الرواية لا يخلو من التشويق، بل يدفع القارئ المحب للأدب إلى التساؤل عن ماهية هذه الجنة، وربما عن الفلاسفة المقصودين أو المزمع الحديث عنهم في عرض أحداث الرواية.
يسرد لنا الكاتب أحداث الرواية بشكل موضوعي، يحفظ لشخصياتها نوعا من التفرد والتميز، وهنا قطع الكاتب السبيل مع أساليب السرد التقليدي، التي تجعل من المؤلف مهيمنا ومسيرا لجميع الأحداث والشخصيات، كما تجعل من القارئ مجرد مستقبل سلبي. وبذلك كسر الكاتب قيود العادة وتمادى في الإبداع بنوع من المغامرة، دمجت بين الواقع والخيال.
كل هذا قدمه الأستاذ مصطفى بلغة جميلة سامقة، تليق به وبشخصيات الرواية، فقد تفنن في جعل المتن اللغوي لسرده يرقى إلى المستوى المطلوب الذي تنظره الساحة الأدبية، بقرائها ونقادها، ولعل ذلك يتضح جليا في وصفه لبطلي الرواية، ليقدم لنا نموذجا للعلاقة غير التقليدية بين الأستاذ والطالب، هذه العلاقة التي أضحت ضرورة لا محيد عنها، بغية نفي ذاك الارتباط التقليدي الذي يختصر دور الأستاذ في نقل واستعراض المعرفة، ويصنف الطالب في خانة المستقبل السلبي. وقد عمد الكاتب في جميع فصول الرواية إلى الحديث بلغة مباشرة أضفت عليها نوعا من الموضوعية.
تحكي الرواية عن طالبة لقبها استاذها بالفيلسوفة، متمردة كانت، لا تتوقف عن التساؤلات، بحر أفكارها لا يهدأ، هائج باستمرار، متأملة بفكر انتقائي، جعلها تهتم كثيرا بتفاصيل محيطها وعلاقتها بالآخرين، شخصيتها قطعت على نفسها عهدا بتجنب الابتذال والمغالاة، سنت لنفسها القوانين وتبنت عدة أفكار، فاتخذت منها مخلوقات حقيقية تجب رعايتها، لم تكن تستسلم لخوف أو حزن، سلاحها كان قوة وتاجها عنفوان. تنظر للزمن نظرة مختلفة عن المعهود، اعتبرته معجزا للعقل البشري الذي لا يعيه، بل يتقبله كمسلمات. هذا كان يذكرها بالقديس اوغسطين الذي قال أنه يعرف الزمن ما لم يسأله عنه أحد، لكن حين يسأل عنه أو يحاول تعريفه يعجز عن ذلك.
تأثرت الفيلسوفة كثيرا بأستاذها، بافكاره وقدرته الكبيرة على الاقناع، كان هو متمرسا، يحفظ لنفسه حضورها القوي، كما أنه يتيح لطلابه إمكانية السفر في متاهات من الأفكار التي تجعلهم دوما على شفا حفرة من الضياع والتيه.
الحدث الرئيسي في رواية “جنة الفلاسفة” كان تجربة، اقترحتها الفيلسوفة وباركها الأستاذ، فبعد عودة التواصل بينهما، تفرعت احاديثهما، والتي تجاوزت ذكريات الدراسة، ودخلا بذلك في خلاف حول علاقة البشر بالطبيعة. التفكير في التجربة أو المغامرة إن صح القول، كان وليد نقاشاتهما،المحتدة أحيانا، هي نتاج اختلافات فكرية راديكالية بين الطرفين، صارت بحاجة إلى الحسم فيها. شعار الفيلسوفة مفاده أنه لا يمكن الاكتفاء بالكلمات بل لا بد من عيشها. هكذا جاءت فكرة الرجوع إلى الطبيعة على أمل التخلص من الرواسب والابتعاد عن الحضارة، والتكنولوجيا والعمران. توجست الفيلسوفة خيفة من التجربة، وإن كانت هي السباقة إلى اقتراحها، لكن التجربة فرضت نفسها بقوة.
تميزت الرواية أيضا باستثمار كاتبها لمجموعة من الفلاسفة، كسقراط وابن رشد وديوجين. هذا الاستثمار لم يكن مجرد إضافة فقط، بل تجاوزها إلى الخوض في بعض النظريات التي أسست للتصورات الإنسانية، ككهف أفلاطون، حيث ورد ذكر هذا الأخير وهو يحاول المقارنة بين كهفه والجنة. صورت الرواية أيضا مشهدا لسقراط في جدال مع تلامذته، وكذا ابن رشد، الذي تم تجسيده محاولا التوفيق بين عقلين مختلفين. هذا دون إغفال سبينوزا وسارتر.
سيمون دي بوفوار كان لها حضور آخر في الرواية، حيث كانت تناضل لتجد لها مكانا وسط طابور الفلاسفة. وقد رأتها شخصية الفيلسوفة مثالا للاستقلالية والحرية.
جنة الفلاسفة هي تحفة فنية نجحت في التوفيق بين الخيال والواقعية، تتيح باحداثها الخصبة سفرا في الذات قبل أن يكون سفرا في الزمان والمكان.