الاشتغال في موضوع الثقافة الشعبية يعتبر مأزقا، لكونه يعد دافعا مباشرا نحو تبني أفكار أو إيديولوجيات لا حصر لها، إلا أن الاحتكاك مع هذه الثنائية المفهومية المشتركة، يتيح لك فرصة التعرف على هويتك، ومن ثمة الشعور بروح الوطنية الحقة الصادقة، الشيء الذي يدفعنا إلى توجهين، إما أن نمارس النقد البناء الذي يعيد تشييد بعض مناحي الحياة العامة، بعبارة أخرى؛ تقويم فلسفة الحياة اليومية الاعتيادية، حتى يتسنى لها الحصول على معنى، وتكتسي مدلولا، وبالتالي الاستمرار المباشر في ضمان حياة الثقافة بكل تصنيفاتها، ومنها الثقافة الشعبية التي تطبع سلوك كل من الفرد والجماعة على حد سواء، حيث تولد عبر هذا التعدد والاختلاف، وإما أن نمارس النقض صوب هدم كل الممارسات المجتمعية، ونقصي كل الأشكال الثقافية بدعوى الانخراط المباشر في ظواهر التحديث.
الثقافة الشعبية ممارسة ومعتقد، قد تقودنا الممارسة إلى المعتقد والاعتقاد، وقد يقودنا هذا الاعتقاد إلى الممارسة، إن الفيصل بينهما هو الإيمان القطعي، بأن كلا من هذا وذاك، وجهان لعملة واحدة، هي التي تؤسس تكوين مفهوم شامل قابل للدراسة والفهم والتحليل، وعليه؛ يحصل التلقين لمتلقٍّ مختلف متعدد، هذا المفهوم الذي يطلق عليه حسب اعتقادي بشكل عشوائي واعتباطي الثقافة الشعبية.
إن مركزية الثقافة الشعبية، تكمن في التعدد في المقام الأول، وكذا في قدرتها على اكتساح أحدث الأشكال الفنية تطورا، ونمثل لذلك بالسينما على سبيل المثال لا الحصر، فلا مناص لهذا الشكل الجذاب الساحر من أن يعتبر الثقافة الشعبية أرضا خصبة أو بوارا، فيبسط نفوذه على الأخضر واليابس منها، لتكون بذلك مرجعية أساسية من أهم مرجعياته، ما السينما العالمية بشكل عام، والمغربية منها على وجه الخصوص، نموذجا مثاليا أقدر على جعل الثقافة الشعبية تتخذ نمطا جماليا، يعكس مدى أهميتها في حياتنا الاعتيادية، وكأننا بذلك نضع لها قالبا أو إطارا، لا نقصد بذلك قتل أو تسييج، وإنما بعث من رماد، وتسليط الضوء على المهمل منها، وعلى الممارسات التي من شأنها أن تقوي أواصر العلاقات الإنسانية، كالكرنفال ومدلوله، الذي يعكس احتفالية مطلقة، تجمع أكثر مما تفرق، لأنه تجسيد لطموح الروح الإنسانية التي تسعى إلى البحث عن العشيرة روحيا، أكثر من ميل الإنسان إلى العزلة، ما يسهم في الشعور الجمعي بروح الوطنية الحقة، والإحساس بروح الانتماء إلى الجغرافية والتاريخ.
إن بناء الهوية الوطنية لن يتحقق بشكل شامل وكلي، إلا بالوعي بممارستنا لمجموعة من المعتقدات، ومن بينها المعتقد الثقافي، الذي يطبع الكائن البشري عن غيره، لقدرته على الوعي بممارسته لمفهوم الثقافة، ولعل مبادرات التبادل الثقافي بين المغرب وأمريكا، أو بين المغرب والصين، تعكس الرغبة الجادة في إحداث الإشعاع المأمول، الذي نطمح إليه على حد سواء، توجها وزاريا، ومهتمين بالشأن الثقافي ببلادنا.
إلا أن الإشكالية التي تطرح نفسها هنا وجوبا يمكن عرضها كالآتي: هل استطعنا أن نفهم خصائص ثقافتنا الشعبية الوطنية؟ ما مقدار هذا الفهم والوعي إذا حصِّلاَ طبعا؟ ماذا نقصد بالثقافة الشعبية المغربية؟
إذا قلنا إن زيارة تاج محل، ومحاولة فهم العشائر الهندية خلال فترة زمنية ضيقة، أو التسكع في شوارع اليابان، دون الوعي بقيمة الممارسة الثقافية الجادة، يكون بمثابة الدرجة الصفر في سلم المثاقفة الحقيقة المنشودة.
العبرة المستفاد منها هنا، هو تصحيح المسار الثقافي ببلادنا، كي لا يكون المغرب معبرا، أو أرضا بوارا خال من طعم الثقافة، ونقصد بذلك صياغة برامج واضحة، وقواعد ملزمة لكل الأطراف الذين يطمحون إلى خوض غمار المجال الثقافي، ولنا في ذلك مثال المذكرة 011.25 التي صدرت يوم 24 يناير 2025 الموجهة على السيدات والسادة الأساتذة مديرات ومديري مؤسسات تكوين الأطر العليا، في شأن منح الحكومة اليابانية(Les bourses MEXT)، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن دور وزارة الثقافة ووزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، ووزارة التعليم العالي ببلادنا، هل هناك شراكات في المقابل وبالمثل؟
ماعدا الطلبة المعدودين على رؤوس الأصابع، الذي درسوا إلى جانبنا بسلكي الإجازة والماستر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية/ جامعة محمد الخامس بالرباط، من كل من تركيا وإيطاليا والصين والعراق وموريتانيا وبلجيكا وعمان، يظل ذكر الدول قاصرا مقارنة مع ما ترصده توجهات الدول التي تربط الثقافة بالتنمية بمختلف مستوياتها، السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كمركز لتحليلنا، وبالتالي؛ فإن أبسط ما يمكن التوصية به هو فتح ملف مستعجل يراعي مصلحة الثقافة الوطنية المغربية وفهم متطلبات استمراريتها من جهة، مع الالتزام الجاد والفعلي التي يتيح إمكانية الانفتاح على الآخر القادر على تبني وتطوير والمساهمة في إشعاع ثقافنا، عبر الإشعاع المعقلن، لأننا نطمح إلى مغرب أقوى، مغرب خالد.









