قراءة قانونية نقدية لمشروع القانون رقم 97.15 المتعلق بتنظيم حق الإضراب في ضوء التجارب المقارنة

مجتمع
7 فبراير 2025
قراءة قانونية نقدية لمشروع القانون رقم 97.15 المتعلق بتنظيم حق الإضراب في ضوء التجارب المقارنة
رابط مختصر

الدكتور إبراهيم النوحي

يشكل الحق في الإضراب ركيزة أساسية من حقوق الإنسان والحريات النقابية، وهو مكفول دستورياً في المغرب منذ دستور 1962، كما أُعيد تأكيده في الفصل 29 من دستور 2011. رغم ذلك، ظل غياب قانون تنظيمي يحدد شروط وكيفيات ممارسته يشكل فراغاً تشريعياً، إلى أن طُرح مشروع القانون رقم 97.15 لتدارك هذا الوضع. غير أن هذا المشروع أثار العديد من الإشكالات القانونية والحقوقية بالنظر لطبيعته التقييدية في بعض الجوانب، مما يستدعي تحليله ومقارنته بتجارب دولية عربية وغربية .
يهدف مشروع القانون رقم 97.15 إلى تنظيم ممارسة حق الإضراب وضبطه في إطار يوازن بين حماية هذا الحق وضمان استمرارية المرافق الحيوية. إلا أن نص المشروع يكشف عن نزعة تقييدية تتجلى في عدة مواد، مما قد يؤثر على ممارسة هذا الحق في الواقع العملي حيث ينص المشروع في مادته الثانية على أن الإضراب هو “توقف جماعي عن العمل يتم بصفة مدبرة ولمدة محددة، بهدف الدفاع عن الحقوق أو المصالح الاجتماعية أو الاقتصادية المباشرة للأجراء”.والملاحظ أن هذه المادة حصرت ممارسة الحق في الإضراب بفئة الأجراء فقط، واستثنت فئات مهنية أخرى مثل المستقلين والعمال غير الأجراء.كما أنها أغفلت الإضرابات التضامنية أو تلك المرتبطة بمطالب سياسية ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية .أما فيما يخص الجهة الداعية للإضراب فالمادة 3 تمنح الحق في الدعوة للإضراب للنقابات الأكثر تمثيلاً فقط.
وهمشت بذلك المنظمات المهنية والنقابات غير الممثلة وطنياً، وبالتالي قيدت حرية التنظيم النقابي ومعه الحق في الإضراب.كما تجاهلت ، هذه المادة ، دور الجمعيات المهنية والهيئات المستقلة، وهو ما يتعارض مع العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. أما المادة 5 فتقيد الأهداف المشروعة للإضراب وتمنع الإضراب لأهداف سياسية.مما يطرح إشكالات مرتبطة بالغموض في تعريف “الأهداف السياسية”، ويفتح المجال لتأويلات قد تؤدي إلى الحد من الإضرابات المرتبطة بالسياسات العمومية التي تمس الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. كما أن المادة لا تحدد معيارا للتمييز بين الإضرابات ذات البعد السياسي الصرف وتلك التي تعبر عن احتجاج على قرارات حكومية تمس مصالح العمال .وينص المشروع في المادة 20 و 34 كذلك على ضرورة ضمان حد أدنى من الخدمة خلال الإضراب لضمان استمرارية المرافق الحيوية. والملاحظ أن هناك غموضا في المعايير المحددة لتصنيف المرافق الحيوية، مما قد يؤدي إلى تعميم هذا المفهوم وتقييد الحق في الإضراب بشكل واسع. كما أنه ترك سلطة تقدير الحد الأدنى من الخدمة بيد القضاء دون معايير دقيقة مما يخلق تفاوتاً في تطبيق القانون.وتشترط المادة 16 من المشروع موافقة ثلاثة أرباع (¾) الأجراء في الجمع العام لاعتماد قرار الإضراب ، وهذا شرط تعجيزي لا يتناسب مع التجارب الدولية، حيث يُكتفى غالباً بالأغلبية البسيطة لضمان الديمقراطية النقابية.كما أنها لا تراعى خصوصيات المؤسسات الكبيرة التي يصعب فيها جمع هذا العدد من المشاركين. ويكتسي هذا المشروع طابعا زجريا (المواد 40-41-42-43-44) حيث يتضمن المشروع عقوبات صارمة على المضربين والمنظمات الداعية للإضراب. مما يثير التساؤل حول الجدوى من تغليب المقاربة الزجرية بدل التركيز على الآليات التصالحية والحوار الاجتماعي. ويكرس خطر استخدام هذه العقوبات كوسيلة للضغط على الحركات الاحتجاجية المشروعة.
وبالنظر للقوانين المقارنة المتعلقة بتنظيم الحق في الإضراب ، تُظهر المقارنة بين مشروع القانون المغربي رقم 97.15 والتشريعات المقارنة في كل من الدول العربية والأوروبية واليابان والولايات المتحدة اختلافات جوهرية في تنظيم الحق في الإضراب. ففي الدول الأوروبية مثل فرنسا وإسبانيا، يُعترف بالإضراب كحق دستوري، ويُمارس ضمن إطار قانوني يوازن بين حرية الإضراب واستمرارية الخدمات الأساسية، مع ترك هامش واسع للحوار الاجتماعي والاتفاقيات الجماعية لتحديد الحد الأدنى من الخدمة. أما في اليابان، فيُعتبر الإضراب حقاً مشروعاً لكنه مقيد بشروط صارمة تتعلق بحماية النظام العام، مع التركيز على تسوية النزاعات عبر الوساطة قبل اللجوء للإضراب. وفي الولايات المتحدة، يخضع الحق في الإضراب لتنظيم قانوني دقيق، حيث يُسمح به في القطاع الخاص وفق قانون علاقات العمل الوطنية (NLRA). وفي ألمانيا لا يوجد قانون خاص بالإضراب، بل يُنظم من خلال الاجتهادات القضائية. أما في الدول العربية، مثل تونس ومصر، فرغم الاعتراف الدستوري بالحق في الإضراب، إلا أن القوانين غالباً ما تتسم بتوجهات تقييدية، حيث تفرض قيوداً مشددة على القطاعات الحيوية وتمنح سلطات واسعة للحكومة لضبط ممارسة هذا الحق. بالمقارنة، يُلاحظ أن مشروع القانون المغربي يميل إلى المقاربة التقييدية المشددة، خاصة في ما يتعلق بتحديد الجهات الداعية للإضراب، وتوسيع قائمة المرافق الحيوية، وفرض عقوبات صارمة، مما يجعله أكثر تقيداً مقارنة بالتجارب الدولية التي توازن بشكل أوضح بين حماية الحق في الإضراب وضمان المصلحة العامة.
تقتضي مراجعة مشروع القانون رقم 97.15 إدخال تعديلات جوهرية لتعزيز التوازن بين حماية الحق الدستوري في الإضراب وضمان استمرارية المرافق الحيوية. ولتحقيق هذا الهدف، ينبغي توسيع نطاق الحق في الإضراب ليشمل جميع الفئات المهنية دون الاقتصار على الأجراء (تعديل المادة 2)، مع تعديل شروط الدعوة للإضراب لتشمل جميع النقابات القانونية بغض النظر عن مستوى تمثيليتها الوطنية، بما يعزز التعددية النقابية (تعديل المادة 3). كما يُستحسن تحديد دقيق للقطاعات الحيوية ووضع معايير واضحة للحد الأدنى من الخدمة لتجنب التأويلات الفضفاضة التي قد تقيد الحق بشكل غير مبرر (تعديل المواد 20 و34). وفي سياق تعزيز الديمقراطية النقابية، ينبغي تخفيف شروط اتخاذ قرار الإضراب من خلال تقليص النصاب المطلوب إلى الأغلبية البسيطة (تعديل المادة 16). إضافة إلى ذلك، ينبغي تحديد الفئات المستثناة من ممارسة هذا الحق بدقة ووفق معايير منسجمة مع الالتزامات الدولية للمغرب في مجال الحقوق والحريات (تعديل المادة 33)، مع تقليص الطابع الزجري للعقوبات وتعزيز آليات الحوار الاجتماعي كوسيلة أساسية لتسوية النزاعات (حذف العقوبات الزجرية المتعلقة بممارسة الحق في الإضراب من المواد 40 إلى 44) .وتجدر الإشارة إلى أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي قد خلص لهذه التوصيات في رأيه الاستشاري بناء على التزامات المغرب الدولية وتماهيا مع روح الدستور المغربي .
في الختام ، رغم أهمية مشروع القانون رقم 97.15 في سد الفراغ التشريعي المتعلق بتنظيم حق الإضراب، إلا أن صياغته الحالية تتضمن العديد من القيود التي قد تُضعف ممارسة هذا الحق. يستدعي الأمر مراجعات جوهرية تأخذ بعين الاعتبار تجارب الدول المقارنة والتزامات المغرب الدولية لضمان تحقيق التوازن بين حماية الحقوق الأساسية وضمان استمرارية الخدمات العامة.