بقلم: سمير السباعي
يشكل الفن الغيواني ببلادنا مدرسة ثقافية مغربية قائمة الذات نجحت منذ نهاية ستينات و بداية سبعينات القرن الماضي في احداث خلخلة عميقة في بنية ما كان قائما حينها في المشهد الفني الغنائي ببلادنا ، من خلال الحفر في ما هو كامن في تراثنا الشفهي و الشعبي المتعدد الروافد و الناطق بجغرافيات ذهنية و ثقافية متعددة و متكاملة في نفس الان.
ومن أجل الاحتفاء بهذه المدرسة الغنائية المغربية التي أصبحت جزءا أصيلا من وجوديتنا الثقافية الجمعية، نظم نادي رواد الابداع تحت اشراف جمعية المبادرة الحضرية بدرب مولاي الشريف بالحي المحمدي يومه الأحد 28 أبريل 2025 على الساعة الثالثة زوالا بمقر نفس الجمعية المذكورة تحت شعار “ليلة الوفاء للمدرسة الغيوانية” لقاء فكريا في موضوع: المدرسة الغيوانية رحلة ابداعية في تجديد الأغنية المغربية واحياء التراث من تأطير الباحث مصطفى السعداني و تقديم الكاتب والاعلامي عبد الله لوغشيت. صحيح أن عبد ربه لم يتمكن كاعلامي وباحث في التراث والثقافة الشعبية المغربية من التفاعل حضوريا مع هذا اللقاء الفكري، الا أن بعض المواد الموثقة للحدث صوتا وصورة والتي تمكنا من التقاطها عن بعد بتنسيق مشكور مع الأستاذ لوغشيت بعد انجازها بمجهود توثيقي لأحد أعضاء الجهة المنظمة وهما الفاعلان الثقافيان عبد الرحيم طالبة صقلي و حسن بوسرحان، سمحت لنا نسبيا في رسم هوامش من التفاعل الموضوعاتي الممكن عبر هذه الورقة مع جاء في الندوة من طروحات فكرية حول العلاقة الجدلية التي ربطت الفن الغيواني بالتراث المغربي في شقه الشفوي الشعبي و تأثيرات ذلك على الفعل الغنائي المغربي بشكل عام. و كعادتنا و من أجل أن نتجاوز سردية الكتابة التقريرية أمكننا الامساك تفاعليا بثلاثة محاور أنتجها العرض الفكري الذي قدم من طرف الباحث مصطفى السعداني خلال هذا الموعد الثقافي، والذي برز كمرافعة بالتعبير الحقوقي للكلمة للدفاع عن مساحة من هويتنا الثقافية المغربية على حد تعبير لوغشيت. أولا، نجد أن محاولات التأصيل لولادة اللحظة الغيوانية في الفن المغربي قد شكلت مدخلا رئيسيا حاول من خلاله السعداني التأكيد على أن الغناء الغيواني ان صح التعبير شكل انبعاثه لحظة مفصلية في تاريخ الأغنية المغربية المعاصرة ان لم نقل المشهد الثقافي الجمعي ببلادنا ككل، على اعتبار أن لحظة ولادة هذا الفن في زمانيته المشار اليها سابقا اعتبرت حسب نفس المتحدث اعلانا عن قطيعة بالمعنى الابستمولوجي ان صح التفسير لتجاوز سلطة التجارب الفنية التي كان يعرفها المغرب المستقل انذاك و التي كانت تمتح من معين شبه وحيد هو الغناء المشرقي المبني على سلطة المغني الفرد و سكونية معمارية للجوق المرافق ان أردنا القول.

و قد أعلنت الفرق الغيوانية الأولى المؤسسة لهذه الحركة الفنية عن تصور جديد للأغنية المغربية أساسه استنطاق موروث ذاكرة فنون القول الشعبي ببلادنا الناطق في عمقه بحركية الانسان داخل المجال البدوي حسب ما يفهم من كلام السعداني. و قد كان لهذا المشروع الفني الذي أعلن عن أولى صرخات ولادتها الأولى في الحي المحمدي بالبيضاء عبر خلق مجموعة ناس الغيوان تأثير في بروز تحول ملحوظ في الممارسة الغنائية بالمغرب من خلال اضطلاع عدد من هذه المجموعات المؤسسة للمدرسة الغيوانية بتدشين مختبرات فنية لتوظيف نصوص التراث الفني المغربي كمتون الملحون و الأغاني الشعبية الشفهية البدوية حسب اشارات نفس المتدخل. وهي نصوص كما جاء في حديث السعداني تمتح من تاريخية المعيش اليومي في أعماق البوادي المغربية، الممتدة على كامل تراب الوطن. ثانيا، نجد أن الحديث عن أشكال حضور المعطى التراثي في انتاجات المدرسة الغيوانية قد شكل محورا ثانيا حرك أنفاس القول الفكري خلال هذا اللقاء، سواء من خلال تأكيد السعداني أن ما ميز الغناء الغيواني منذ انطلاقته الأولى أنه راهن أولا على الغناء المجموعاتي لأفراد تكاملوا ثقافيا بشكل مكن كل فرد من التعبير عن انتماءه القبلي الثقافي في كلية ما كان ينجز من أغاني- مثال مجموعة ناس الغيوان- و ثانيا على ضمان التعبير داخل أغلب ما أنجز من أعمال غنائية بلسان عامي دارجي بكل ما يحيل عليه من مقومات ثقافية شعبية و ناطق في نفس الان بهم اجتماعي لفات واسعة من المجتمع كان غناء المجموعات الغيوانية بالنسبة لها معبرا عن صرختها من أجل واقع معيشي و كرامة انسانية في ظل ما يمكن للفن أن ينتجه من رسائل معينة ضمن جدلية الصراع الممتدة بين السلطة والمجتمع حسب ما يستنتج من كلام السعداني. وهو ما مكن حسب هذا الأخير دائما عددا من مجموعات المدرسة الغيوانية مثل تكدة ولمشاهب واعشاقن و جيل جيلالة أن تنحاز الى انتاج غنائي شعبي ظهر كامتداد لفنون القول الشعبية التراثية التي لا تزال محفورة في ذاكرة تلقينا الجمعي ان صح القول، مثل عيطة خربوشة. و هذا ما ساهم حسب السعداني في تحويل عدد من النصوص القولية كالزجل من التدوال المحدود والهامشي الى أن تأخذ لها مساحة مهمة في المنتوج الغنائي الذي أنتجه رواد المدرسة الغيوانية عبر تجارب متعددة، خصوصا أن هؤلاء الرواد كانوا في الغالب من يقومون بنظم كلمات الأغاني الغيوانية تناغما مع نفس النسق والتوجه و هو ماكان له دور الاعلاء من قيمة عدة متون شفهية ذات النفس التراثي الشعبي العميق حسب ما يستخلص من مداخلة السعداني. في المقابل يبدو أن الحديث عن دلالات الاشعاع الجماهري للمدرسة الغيوانية على الصعيد الوطني والعالمي قد برز كمحور موضوعاتي ثالث و أخير، أطر أحاديث هذه الندوة الفكرية، حيث كان المتدخل نفسه واضحا في التأكيد على أن ظهور الفن الغيواني و خروجه الأول من دروب الحي المحمدي بالدار البيضاء كان له وقع كبير ليس فقط على المستوى المغربي و انما أيضا على الصعيد العالمي بدليل التجربة السينمائية للمخرج العالمي ماران سكورسيزي الذي انجذب الى اهات مجموعة ناس الغيوان موظفا اياها كخلفية موسيقية في أحد أبرز أفلامه ” الاغراء الأخير للسيد المسيح” بعد أن تعرف على الموسيقى الغيوانية عبر فيلم الحال للمخرج المغربي أحمد المعنوني كما هو معلوم. و هو ما يفسر حسب ما نعتقد أن أهم ما حققته المدرسة الغيوانية و كما أكد على ذلك سكورسيزي نفسه في مرات عديدة، هو تعريفها بعمق الثقافة الشعبية المغربية عبر لغة الموسيقى والكلام الزجلي الشعبي المنبعث من يوميات معاشة بعمق.
و يبقى علينا في الأخير الا أن نثمن انعقاد مثل هذه المناسبات الثقافية ليس لنقوم باعادة انتاج أو استهلاك سرديات تعتبر في نظر العديدين مستهلكة حول تاريخية الفن الغيواني ببلادنا، و تأثيره المجتمعي وانما، لنعمل بشكل عملي على تصور ووضع برامج عمل ميدانية تسمح لنا بتثمين موروث المدرسة الغيوانية داخل منظومة التربية والتعليم و الاعلام الصحفي من أجل استنباط ممكنات للحفر و تأصيل هويتنا الجمعية الشعبية لصالح الأجيال المغربية الصاعدة مع الحاجة لانخراط تام للفاعل الرسمي على حد تعبير لوغشيت كمحدد رئيسي في انجاح هذا رهان مجتمعي. دون أن ننسى بطبيعة الحال ضرورة الاعتناء الرمزي على الأقل،بعيدا عن أي طقوسيات متجاوزة بذاكرة الرواد والراءدات الذين و اللواتي ناضلوا و ناضلن بكل طاقاتهم من أجل التأصيل للمدرسة الغيوانية في المشهد الثقافي المغربي.
للاشارة فقد عرف هذا الموعد الثقافي وصلات موسيقية غيوانية وتوزيع جوائز تقديرية للفاءزين في المسابقة الشعرية الزجلية التي نظمت من طرف نادي رواد الابداع مع توقيع كتاب ” هكذا حلقت في سماء الغيوان” لكاتبه سعيد محافظ. للاشارة الصورة الرفقة من صفحة الشاعر عبد الرحيم طالبة صقلي. والى تفاعل قادم كل عام و المدرسة الغيوانية بألف خير